سورة التوبة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{اتخذوا} زيادةُ تقريرٍ لما سلف من كفرهم بالله تعالى {أحبارهم} وهم علماءُ اليهود، واختُلف في واحده، قال الأصمعي: لا أدري أهو حَبْرٌ أم حِبْرٌ وقال أبو الهيثم: بالفتح لا غير، وكان الليثُ وابنُ السِّكِّيتِ يقولان: حِبْرٌ وحَبْرٌ للعالِم ذمياً كان أو مسلماً بعد أن كان من أهل الكتاب {ورهبانهم} وهم علماءُ النصارى من أصحاب الصوامعِ أي اتخذ كلُّ واحد من الفريقين علماءَهم لا الكلُّ الكلَّ {أَرْبَابًا مّن دُونِ الله} بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليلِ ما حرمه أو بالسجود لهم ونحوِه تسميةُ اتِّباعِ الشيطان عبادةً له كما في قوله تعالى: {سَوِيّاً ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} وقوله تعالى: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} قال عدي بن حاتم: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ من ذهب وكان إذ ذاك على دين يسمَّى الركوسية فريق من النصارى وهو يقرأ سورةَ براءة فقال: «يا عديُّ اطرَحْ هذا الوثنَ» فطرحتُه فلما انتهى إلى قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله} قلت: يا رسولَ الله لم يكونوا يعبُدونهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «أليس يحرِّمون ما أحل الله فتُحرِّمونه ويُحِلّون ما حرم الله فتَستحلّونه؟» فقلتُ: بلى، قال: «ذلك عبادتُهم» قال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبيةُ في بني إسرائيلَ؟ قال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله تعالى ما يخالف أقوالَ الأحبارِ فكانوا يأخُذون بأقوالهم ويترُكون حُكمَ كتابِ الله {والمسيح ابن مَرْيَمَ} عطفٌ على رهبانهم أي اتخذه النصارى رباً معبوداً بعد ما قالوا إنه ابنُه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وتخصيصُ الاتخاذِ به يشير إلى أن اليهودَ ما فعلوا ذلك بعزيرٍ، وتأخيرُه في الذكر مع أن اتخاذَهم له عليه الصلاة والسلام رباً معبوداً أقوى من مجرد الإطاعةِ في أمر التحليل والتحريمِ كما هو المرادُ باتخاذهم الأحبارَ والرهبانَ أرباباً، لأنه مختصٌّ بالنصارى، ونسبتُه عليه الصلاة والسلام إلى أمه من حيث دلالتُها على مربوبيته المنافيةِ للربوبية للإيذان بكمال ركاكةِ رأيِهم والقضاءِ عليهم بنهاية الجهل والحماقة.
{وَمَا أُمِرُواْ} أي والحالُ أن أولئك الكفرةَ ما أُمروا في كتابيهم {إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} عظيمَ الشأنِ هو الله سبحانه وتعالى ويطيعوا أمرَه ولا يطيعوا أمرَ غيرِه بخلافه، فإن ذلك مُخِلٌّ بعبادته تعالى فإن جميعَ الكتبِ السماوية متفقةٌ على ذلك قاطبةً وقد قال المسيح عليه السلام: {إنه من يشرِكْ بالله فقد حرم الله عليه الجنة} وأما إطاعة الرسولِ صلى الله عليه وسلم وسائرِ مَنْ أمر الله تعالى بطاعته فهي في الحقيقة إطاعةٌ لله عز وجل أو وما أُمر الذين اتخذهم الكفرةُ أرباباً من المسيح والأحبارِ والرهبانِ إلا ليوحِّدوا الله تعالى فكيف يصِحُّ أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبَدون مثلَهم ولا يقدح في ذلك كونُ ربوبيةِ الأحبار والرهبان بطريق الإطاعةِ فإن تخصيصَ العبادة به تعالى لا يتحقق إلا بتخصيص الطاعَةِ أيضاً به تعالى وحيث لم يخُصوها به تعالى لم يخصّوا العبادةَ به سبحانه {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} صفةٌ ثانيةٌ لإلها أو استئنافٌ مقرِّرٌ للتوحيد {سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن الإشراك به في العبادة والطاعةِ.


{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله} إطفاءُ النار عبارةٌ عن إزالة لَهبِها الموجبةِ لزوال نورِها لا عن إزالة نورِها كما قيل، لكن لما كان الغرضُ من إطفاء نارٍ لا يراد بها إلا النورُ كالمصباح إزالةَ نورِها جُعل إطفاؤُها عبارةً عنها ثم شاع ذلك حتى كان عبارةً عن مطلق إزالةِ النور وإن كان لغير النار، والسرِّ في ذلك انحصارُ إمكانِ الإزالةِ في نورها والمرادُ بنور الله سبحانه إما حجتُه النيرةُ الدالةُ على وحدانيته وتنزُّهِه عن الشركاء والأولادِ أو القرآن العظيمِ الناطقِ بذلك أي يريد أهلُ الكتابين أن يردّوا القرآنَ ويكذِّبوه فيما نطَق به من التوحيد والتنزُّه عن الشركاء والأولادِ والشرائعِ التي من جملتها ما خالفوه من أمر الحِلِّ والحُرمة {بأفواههم} بأقاويلهم الباطلةِ الخارجةِ منها من غير أن يكونَ لها مصداقٌ تنطبقُ عليه أو أصلٌ تستند إليه حسبما حُكي عنهم. وقيل: المرادُ به نُبوةُ النبي صلى الله عليه وسلم، هذا وقد قيل: مُثِّلت حالُهم فيما ذكر بحال مَنْ يريد طمسَ نورٍ عظيم منبثَ في الآفاق بنفخة {ويأبى الله} أي لا يريد {إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} بإعلاء كلمةِ التوحيدِ وإعرازِ دينِ الإسلامِ وإنما صح الاستثناءُ المفرَّغُ من الموجَب لكونه بمعنى النفي كما أشير إليه لوقوعه في مقابلة قوله تعالى: {يُرِيدُونَ} وفيه من المبالغة والدِلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادةِ، أي لا يريد شيئاً من الأشياء إلا إتمامَ نورِه فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه فضلاً عن الإطفاء، وفي إظهار النورِ في مَقام الإضمارِ مضافاً إلى ضميره عز وجل زيادةُ اعتناءٍ بشأنه وتشريفٌ له على تشريف وإشعارٌ بعِلة الحُكم {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} جوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه، والجملةُ معطوفةٌ على جملة قبلها مقدرةٍ وكلتاهما في موقع الحال، أي لا يريد الله إلا إتمامَ نورِه لو لم يكرَهِ الكافرون ذلك ولو كرهوه، أي على كل حال مفروضٍ وقد حُذفت الأولى في الباب حذفاً مطرداً لدلالة الثانيةِ عليها دَلالةً واضحةً لأن الشيء إذا تحقق عند المانِع فلأَنْ يتحققَ عند عدمِه أولى وعلى هذا السرِّ يدور ما في أن ولو الوصليتين من التأكيد وقد مر زيادةُ تحقيق لهذا مراراً.
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} ملتبساً {بالهدى} أي القرآن الذي هو هدى للمتقين {وَدِينِ الحق} الثابتِ وهو دينُ الإسلام {لِيُظْهِرَهُ} أي رسولُه {عَلَى الدين كُلّهِ} أي على أهل الأديانِ كلِّهم أو ليُظهرَ الدينَ الحقِّ على سائر الأديان بنسخه إياها حسبما تقتضيه الحِكمةُ، والجملةُ بيانٌ وتقريرٌ لمضمون الجملةِ السابقة، والكلامُ في قوله عز وجل: {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} كما فيما سبق خلاً أن وصفَهم بالشرك بعد وصفِهم بالكفر للدلالة على أنهم ضمُّوا الكفرَ بالرسول إلى الكفر بالله.


{يأيها الذين آمنوا} شروعٌ في بيان حال الأحبارِ والرهبانِ في إغوائهم لأراذلهم إثرَ بيانِ سوءِ حالِ الأتباع في اتخاذهم {لهم} أرباباً يُطيعونهم في الأوامر والنواهي واتباعِهم لهم فيما يأتون وما يذرون {إِنَّ كَثِيراً مّنَ الاحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل} يأخذونها بطريق الرِّشوةِ لتغيير الأحكامِ والشرائعِ والتخفيفِ والمسامحة فيها، وإنما عبِّر عن ذلك بالأكل بناءً على أنه معظمُ الغرَضِ منه وتقبيحاً لحالهم وتنفيراً للسامعين عنهم {وَيَصُدُّونَ} الناس {عَن سَبِيلِ الله} عن دين الإسلامِ أو عن المسلك المقرَّر في التوراة والإنجيل إلى ما افتَرَوْه وحرَّفوه بأخذ الرشا ويصُدُّون عنه بأنفسهم بأكلهم الأموالَ بالباطل {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} أي يجمعونهما ويحفَظونهما سواءٌ كان ذلك بالدفن أو بوجه آخرَ والموصولُ عبارةٌ إما عن الكثير من الأحبار والرهبانِ فيكون مبالغةً في الوصف بالحِرْص والضّنِّ بهما بعد وصفِهم بما سبق من أخذ الرشا والبراطيلِ في الأباطيل وإما عن المسلمين الكانزين غيرِ المنفقين وهو الأنسبُ بقوله عز وجل {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} فيكون نظمُهم في قَرْن المرتشين من أهل الكتابِ تغليظاً ودِلالةً على كونهم أسوةً لهم في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم، فالمرادُ بالإنفاق في سبيل الله الزكاةُ لما رُوي أنه لما نزل كبُرَ ذلك على المسلمين فذكر عمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله تعالى لم يفرِض الزكاةَ إلا ليُطيِّبَ بها ما بقيَ من أموالكم» ولقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أُدِّي زكاتُه فليس بكنز» أي بكنزٍ أوُعد عليه فإن الوعيدَ عليه مع عدم الإنفاقِ فيما أمر الله بالإنفاق فيه. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ تَرَكَ صفراءَ أو بيضاءَ كُوي بها» ونحوُه فالمرادُ بها ما لم يؤدِّ حقَّها لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما من صاحب ذهبٍ ولا فضة لا يؤدّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحَتْ له صفائحُ من نار فيُكوى بها جنبُه وجبينُه وظهرُه» {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} خبرٌ للموصول والفاءُ لتضمنه معنى الشرطِ ويجوز أن يكون الموصولُ منصوباً بفعل يفسِّره فبشرهم {يَوْمَ} منصوبٌ بعذاب أليمٍ أو بمضمر يدلُّ عليه ذلك أي يعذّبون أو باذكر {يحمى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ} أي يوم توقد النارُ ذاتُ حَمْيٍ شديدٍ عليها، وأصلُه تُحمى النارُ فجعل الإحماءُ للنار مبالغةً ثم حُذفت النارُ وأسند الفعلُ إلى الجارِّ والمجرور تنبيهاً على المقصود فانتقل من صيغة التأنيثِ إلى التذكير كما تقول: رُفعت القصةُ إلى الأمير فإن طرحْتَ القِصةَ قلت: رُفع إلى الأمير وإنما قيل: عليها والمذكورُ شيآن لأن المرادَ بهما دنانيرُ ودراهمُ كثيرةٌ كما قال علي رضي الله عنه: أربعةُ آلافٍ وما دونها نفقةٌ، وما فوقها كنزٌ وكذا الكلام في قوله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} وقيل: الضميرُ للأموال والكنوزِ فإن الحُكمِ عامٌّ وتخصيصُهما بالذكر لأنهما قانونُ التموّلِ، أو للفضة وتخصيصُها لقربها ودَلالة حكمِها على أن الذهبَ كذلك بل أولى {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} لأن جمعَهم لها وإمساكَهم كان لطلب الوجاهةِ بالغنى والتنعُّم بالمطاعم الشهيةِ والملابس البهيةِ أو لأنهم ازوَرُّوا عن السائل وأعرضوا عنه وولَّوْه ظهورَهم أو لأنها أشرفُ الأعضاءِ الظاهرةِ فإنها المشتملةُ على الأعضاء الرئيسيةِ التي هي الدماغُ والقلبُ والكبِدُ أو لأنها أصولُ الجهات الأربعةِ التي هي مقاديمُ البدن ومآخِرُه وجنباه {هذا مَا كَنَزْتُمْ} على إرادة القول {لانفُسِكُمْ} لمنفعتها فكان عينَ مَضرَّتها وسببَ تعذيبها {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي وبالَ كنزِكم أو ما تكنِزونه وقرئ بضم النون.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11